لماذا اخترت البحث العلمي؟ ربما هذا أكثر سؤال سُئلت عنه، وغالبًا يأتي هذا السؤال من باب الاستهجان على مجال اخترته لا يحقق تلك المداخيل والمرتبات العالية -في الحقيقة الباحثون يحتاجون من يصرف عليهم ليمولوا أبحاثهم- وربما البعض سأل من باب الخوف عليَّ من أن أُصاب بالخرف أو يشيب رأسي من بدايات شبابي كما سمعوا قصص العلماء والباحثين الذين أصيبوا بالجنون في نهاية حياتهم -البعض حذرني من التعمق وأصبح ملحد- بالحقيقة السؤال عن لماذا البحث العلمي؟ هو سؤال يراودني حتى أنا! لماذا اخترته على حساب باقي المجالات؟ رغم معرفتي ما سوف أعانيه وأقضي فترة غير قصيرة كطالب بالجامعة.
في الحقيقة لدي سبب واحد، ولا أعلم إن كان مقنعًا لي أو لك، لكن قبل الخوض في الإجابة دعني أُحدثك عن نفسي منذ البداية، حتى أجعل من سببي منطقيًا أو مقنعًا إلى حد ما.
عندما انتقلت من المرحلة المتوسطة إلى الثانوية العامة، كان لدي اعتقاد واحد: أن عليّ أن أجد ميولي الدراسية وأنمّيها إلى ما أدخل الجامعة. في تلك الفترة تعلمت أشياء كثيرة وخضت في العديد من المجالات، وكانت مرحلة يمكن أن أسميها "البحث عن الميول المفقودة". تعلمت البرمجة وإنترنت الأشياء والتسويق، وبدأت بتعلم اللغة الإنجليزية والتركية، ثم انتقلت إلى البحث والقراءة في الأدب الإنجليزي، وأخذت دورات متقدمة في الفيزياء والكيمياء رغم أنني لم أفهم 85% من محتواها، لكنني كنت مستمتعًا بهذه الرحلة للبحث عن نفسي.
لم أكتفِ بذلك، بل تعلمت التصميم والمونتاج وحضرت العديد من الندوات والدورات. باختصار، كانت تلك الفترة عبارة عن تعلم مستمر لأشياء عديدة حتى لو لم أفهمها تمامًا، لكن كانت رغبتي ملحّة في أن أعرف ما أريده مستقبلًا. ولهذا أؤمن أن اختياري للتخصص اليوم، والمجال الذي أدرسه، بعد فضل الله وكرمه، لم يكن صدفة تامة، بل أتت من هذه التجربة الطويلة وإن كان كذلك فهي صدفة تأتي للأشخاص المستعدين، وكنتُ أنتظرها منذ سنوات. وهذا ما أؤمن به كسُنّة من سنن الحياة.
إن اختيار البحث العلمي ليكون مستقبلي جاء بعد هذه التجارب العديدة التي لم أجد فيها ما أريده، حتى قابلت ذلك المعلّم في الفيزياء الذي كان كشمعة أستنير بها في هذا الطريق، وكم أتمنى أن ألتقي به مرة أخرى. في ذلك الوقت أذكر جيدًا حين ذهبت إليه لأسأله عن استقطاب الضوء في الفيزياء، ولماذا هذا الشيئ أفسد تجربتي التي أجريتها في المنزل لصنع إضاءة سوداء وأحرق المصباح! حينما سألته كان متحمسًا جدًا للإجابة، وفهمت سبب فشل تجربتي. ومن بعدها أصبحت لدي عادة أن أذهب إليه بعد كل حصة لأسأله عن أمور كثيرة في الفيزياء، وكان يجيب عن أسئلتي من دون كلل ولا ملل. وذات يوم أعطاني مهمة غريبة نوعًا ما: شاهد فيلم خيال علمي ثم نتناقش معًا المسائل العلمية فيه غداً.
شاهدت، ولاحظت، ودونت أسئلتي. كم أعجبني ذلك جدًا، لكن للأسف لم تكتمل مناقشاتنا بسبب تكليفه من إدارة المدرسة بإعطاء دروس إضافية في أوقات فراغه، ربما في يوم ما نلتقي مجدداً ونتناقش ويجيبني على أسئلتي، لكن إلى الآن ما زلت أشعر بالغضب على إدارة المدرسة لإفسادها ذلك النقاش الذي لم يبدأ.
حسنًا، نأتي إلى موضوعنا. في الحقيقة، بعد كل هذه الرحلة ما زلتَ تتساءل لماذا البحث العلمي! حتى أنا ما زلت أبحث عن السبب معك. ولهذا، فإن سببي الغير المقنع يرجع إلى جوهر البحث العلمي ذاته: أسئلة كثيرة، ورغبة في البحث عن أجوبتها. منذ البداية كان رأسي مليئًا بالأسئلة – وربما هذا ما يفسر كِبَره – ولا يهدأ لي بال حتى أجد أجوبتها. بمعنى آخر، البحث العلمي هو البحث عن الحقيقة، وأنا أحب أن أبحث عنها ومنذ البداية وأنا أبحث عن حقيقة ميولي إلى أسئلة بالفيزياء والعلوم لا تنتهي. في الحقيقة هذه طبيعتنا البشرية نسأل ونبحث: من نحن؟ وهل نحن وحدنا؟ إلى ما هو الإلكترون؟ ولماذا يتصرف على هذا النحو؟
اختيار البحث العلمي، ربما لأنني اتصرف بطبيعتي البشرية!
ربما!